السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهلًا وسهلًا بكم أصدقاء منصة Researchable في أولى تدويناتنا التي اخترنا استفتاحها بأول خطوات كتابة البحث العلمي وأحد أهم ركائزه، ألا وهي إيجاد الفكرة البحثية.
تكمن أهمية هذه التدوينة ليس فقط في اختيار الفكرة البحثية؛ بل لكونها أحد المواضيع التي قلما يتم تدريسها أو مناقشتها بشكل مفصل، فمعظم الدورات البحثية والكتب الدراسية تتجاوز هذه الخطوة على افتراض معرفة الباحث بفكرته البحثية والأسلوب البحثي الأنسب لها بالفعل، ولا تتم مناقشة خطوات التفكير المعقدة التي هي الأساس لإيجاد وبناء الفكرة البحثية.
فيما يلي، ستجدون العديد من التوجيهات المفيدة والتي ستساعدكم في اختيار أفكاركم البحثية المميزة!
١- ما الذي يلفت انتباهنا؟ الانتظام أم المخالفة؟
ما الذي سيدفعك لإيجاد فكرة جديدة؟ هل التفكير في السبب وراء الأمور المنتظمة التي تسير كعادتها -كالضغط على المفتاح وتشغيل الضوء-؟ أم التفكير في الأمور الغريبة التي شذت عن هذا الطريق وأصبحت مختلفة عن المعتاد؟
ملاحظة الانتظام أو (الاستقراء) هو أصل مشترك للأفكار الجديدة، وأما المخالفة فهي تخطر على أذهاننا لأنها تتحدى وتخالف توقعاتنا عن الأشياء التي نعرفها مسبقًا، وكلاهما طريقان أساسيان لإيجاد الأفكار الجديدة.
٢- قوائم الاكتشاف
قام بعض الباحثين بإدراج بعض القوائم التي يمكنك من خلالها التوصل إلى أفكار جديدة، سنتعرف بشكل مفصل على اثنتين منها.
الأولى: مصادر الأفكار الجديدة حول تقييم الرعاية الصحية من قبل الباحثين كرومبي وديفيز في فصل "تطوير سؤال البحث" من كتابهما حول البحث في الرعاية الصحية الذي يعكس تجربة الصحة العامة في المملكة المتحدة. وهي كالتالي:
⁃ مراجعة الممارسات الطبية الحالية وتقييمها (هل هي بالجودة المطلوبة؟).
⁃ تحدي الممارسات المقبولة (يتعمد جزء كبير من الرعاية الصحية على الممارسات المقبولة بدلًا من الأدلة البحثية).
⁃ ابحث عن الأدلة الطبية المتعارضة (التي تشير إما إلى عدم وجود أدلة كافية، أو إلى وجود معلومات مضللة لدى بعض الممارسين).
⁃ التحقيق في التباين الجغرافي (التفكير في الاختلافات العائدة للتباين الجغرافي قد يكون مصدرًا مثمرًا للأسئلة البحثية).
⁃ أطلق العنان للخيال (ابحث عن الأفكار الجامحة والمستحيلة!).
⁃ حرر عقلك من القيود التقليدية.
أما التصنيف الثاني، فقد تم اقتراحه من قبل الباحثين هولي وكيومينق حول الرعاية الطبية والمشاكل السريرية في الولايات المتحدة، وهي كالتالي:
⁃ البناء على الخبرة (من خلال تجاربك الخاصة وتجارب زملاءك والأساتذة ذوي الخبرة في المجال، والذين بإمكانك أن تسترشد بهم وتستلهم من خبراتهم).
⁃ جمع الدراسات السابقة، وحضور الندوات والمؤتمرات، وبناء علاقات مع العلماء والباحثين والزملاء.
⁃ اتخاذ "الموقف المتشكك" تجاه المعتقدات السائدة بإمكانه تحفيز أسئلة بحثية جديدة.
⁃ كن منتبهًا، المراقبة الدقيقة للمرضى كانت تاريخيًا أحد أهم مصادر الدراسات الوصفية.
⁃ تجربة التدريس (اضطرارك إلى شرح شيء ما قد يجعلك أكثر انتباهًا للفجوات في معرفتك، وبالمثل، فإن أسئلة المرضى أو الزملاء قد تحدد أشياء نتجاهلها أو لا نفهمها بالكامل).
⁃ "حافظ على تجول خيالك" (ضع السؤال الذي لم يتم حله بوضوح في الاعتبار وقم بتشغيل المفتاح العقلي الذي يسمح للعقل بالتحرك نحوه بحريّة).
٣- تتبع أفكارك
ليس من المهم أن يكون لديك أفكار جيدة فحسب، بل من المهم أيضًا أن تستمر بتطويرها.
يمتلك الباحثون الذين يعملون في المختبرات عادة الاحتفاظ بـ "سجلات المختبر" حيث يكتبون بإيجاز نتائج التجربة، ويلاحظون سبب اعتقادهم أنها سارت بشكل خاطئ، وكيف سيجرون التجربة التالية. وهذا يسمح لهم بتتبع كيفية تغيير التجارب أو حتى محتوى واتجاه أبحاثهم. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه في البحوث الوبائية والسريرية، وخاصة في مرحلة خلق أفكار جديدة.
كان تشارلز داروين مؤمنًا بأن أعظم العقول تتابع أفكارها، فكان يوثق أفكاره، وملاحظاته، وقراءاته، والنظريات والحقائق الجديدة التي أذهلته.
سجل داروين مرةً قصة سمعها من والده الذي كان طبيبًا. روى والده أنه صُدم من طرق أحد مرضاه في التعبير عن نفسه، لأنه كان يعتني بأحد والدي هذا المريض والذي كانت لديه نفس السلوكيات، على الرغم من وفاة الوالد عندما كان المريض لا يزال رضيعًا! لا تزال مثل هذه الملاحظات ذات أهمية اليوم عندما نفكر في الوراثة وتطور السلوك.
٣- دور العواطف
غالبًا ما يكون هناك شعوران متباينان وراء عملية الاكتشاف: "المفاجأة" و"السخط". المفاجأة هي العاطفة الفكرية عندما نرى شيئًا ما يحدث ضد التوقعات: مريض يعاني من تعرض غير عادي، أو مظهر غير عادي من المرض، أو علاج مفاجئ، أو تدهور مفاجئ غير مفهوم؛ نتيجة مختبرية تمثل حالة شاذة؛ والوباء المفاجئ للمرض بين السكان.
أما السخط فهو عاطفة أخلاقية: كمجموعة من المرضى لا يتم علاجهم بشكل جيد لأننا نفتقر إلى المعرفة الكافية، أو لأننا نخطئ في تنظيم الرعاية الصحية أو في نقل وتطبيق المعرفة المتعلقة بالصحة العامة.
سيساعدك الحفاظ على بعض الشغف الأصلي في إيجاد طرق للتغلب على متاعب البحث اليومية، والمغامرات، وصعوبات إقناع الآخرين بالتعاون، وصعوبات النشر أيضًا.
والآن، بعد أن حصلنا على العديد من التوصيات الهامة لإيجاد الفكرة البحثية، لننتقل الآن إلى خطوة جوهرية في هذه المرحلة: ألا وهي "تشذيب السؤال البحثي" وهي تعني إعادة تقييم الفكرة البحثية وحذف أي شيء غير ضروري، بحيث يبقى الجوهر فقط.
عادة ما تؤدي الشرارة الأولية للفكرة إلى بعض الأسئلة البحثية العامة إلى حد ما. عادةً ما تكون هذه الأسئلة مثالية للغاية، أو شاملة ومتوسعة لدرجة أنه لا يمكن بحثها. حينها، يجب عليك تحسين سؤالك البحثي ليصبح مثيرًا للاهتمام وواقعيًا في الآن ذاته. وللقيام بذلك، عليك أن تعرف بوضوح إلى أين تتجه.
اقترح عالم الاجتماع فيرشورين استعارة “ساعة اليد". والتي يشير فيها إلى أن الباحث يشبه من فقد ساعة يده على الشاطئ وعاد للبحث عنها. ويعرف تمامًا أي جزء من الشاطئ يجب أن يبحث فيه، ويمكنه وصف ساعة يده بالتفصيل، وبمجرد العثور عليها، سيعرف أن هذه هي الساعة التي كان يبحث عنها.
فيما يلي بعض التوصيات لصياغة سؤالك البحثي بشكل دقيق:
١- تابع بالترتيب العكسي للورقة التي ستكتبها
أفضل نهج لصياغة السؤال البحثي هو "البدء من النهاية"، أي من الاستنتاج الذي تأمل الوصول له عندما تنشر نتائج بحثكز
معظم أوراق البحث الطبي لها شكل ثابت: المقدمة، الطرق، الوصف. النتائج، المناقشة. وعادةً ما تتكون المناقشة من ثلاثة أجزاء: ملخص النتائج، ومناقشة نقاط القوة والقيود، وأهمية النتائج وتفسيرها. وهنا، عليك أن تتخيل ما يمكن أن تكون عليه هذه الأسطر الأخيرة من الورقة في نهاية المطاف.
كما أن هناك استراتيجية مفيدة أخرى تتمثل في تخيل ما يمكن كتابته في مربع "ما الذي تضيفه لك هذه الورقة؟" والذي تطلبه العديد من المجلات حاليًا لنقل رسالة المؤلفين من البحث بوضوح وإيجاز إلى القراء.
٢- جهز أسئلة تشذيب محددة لتطرحها على نفسك أو على الآخرين
في المناقشات الأولية، يتنقل المرء ذهابًا وإيابًا بين الهدف العام للبحث والأسئلة العلمية التي تتبعه، وتصميمات البحث المحتملة. بعد تحديد الهدف العام للبحث، تابع طرح أسئلة أكثر تحديدًا.
حاول أن تصف بالضبط الفجوة المعرفية التي تريد سدها (أي الساعة التي فقدتها على الشاطئ). هل يتعلق الأمر بالمسببات المرضية أم بالتشخيص؟ وما الذي يجب أن يتغير لصالح مجموعة معينة من المرضى؟ حاول أن تكون أسئلتك واضحة ومحددة قدر الإمكان. فكر: هل يرى زملائك هذه المشاكل وحلولها مثلك؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا؟
بعد ذلك، ستصبح الأسئلة أكثر عملية، وستقودك إلى إيجاد تصميم الدراسة المطلوب وما الذي تحتاجه لتنفيذها
٣- حافظ على النقد الذاتي
يجب عليك دائمًا الاستمرار في النقد الذاتي بشأن الجوانب التي تهدد صحة دراستك، وهذا النقد يبدأ من الخطوات الأولى، . من الضروري للغاية إعادة التفكير فيما إذا كان ينبغي عليك إجراء البحث أصلًا أم لا، فقد تكون هناك عدة أسباب لاتخاذ قرار بعدم متابعة البحث إذا كانت المشكلات العملية كبيرة جدًا مثلًا، أو كان سؤال البحث كبيرًا للغاية بشكل غير عملي. حينها، سيكون من الحكمة القبول بفكرة أبسط.
تذكر دائمًا أن الهدف من البحث هو الوصول إلى نتائج ذات قيمة معتبرة في المجال، ولا فائدة من إضافة بحث آخر يعاني من نفس المشكلات التي لم يتم حلها مثل الأبحاث السابقة.
٤- ما مقدار الأبحاث الذي يجب أن تقرأه؟
إذا كنت تقوم بإعداد مشروع بحثي جديد في مجال جديد، فلا تبدأ بالقراءة كثيرًا لئلا تغرق سريعًا في أفكار الآخرين. بدلاً من ذلك، اقرأ بعض المراجعات العامة التي تحدد المشكلات التي لم تتم الإجابة عليها، ولا تعد إلى الأبحاث السابقة إلا بعد تحديد سؤال البحث الخاص بك وتصميم دراستك بشكل مؤقت.
حينها، ستصبح الأبحاث مثيرة للاهتمام أكثر لأنك تعرف تمامًا ما الذي تحتاجه، وسيتقلص عددها عادةً بسبب اعتمادك على سؤال البحثي المحدد.
٥- ماذا عن إجراء مراجعة منهجية؟
يقترح الباحثون أنه قبل الشروع في بحث جديد، ينبغي للمرء أولًا إجراء مراجعة منهجية (systematic review)، لأنها مما قد يساعد في تحديد فجوات مجال البحث بشكل دقيق، أو التوصل إلى أنه قد تم حل السؤال البحثي الذي يفكر فيه الباحث بالفعل، فلا حاجة حينها لإجراء بحث جديد في نفس الدائرة.
المراجعة المنهجية هي نوع مستقل من أنواع الأبحاث، مخصصة للنشر، وتتطلب الكثير من الوقت والجهد. وكغيرها من الأبحاث، فهي تتطلب سؤالًا بحثيًا واضحًا، لكنه ليس سؤالًا جديدًا، بل هو سؤال سابق تم تحديده بالفعل ولكن لا زالت هناك حاجة إلى مراجعته للحصول على مزيد من المعلومات أو تأكيد النتائج التي توصلت إليها الأبحاث تجاهه.
تمنياتنا لكم بأفكار بحثية مثمرة وخلّاقة!
المرجع:
Jan V, Neil P. From ideas to studies: how to get ideas and sharpen them into research questions. Clin Epidemiol. 2018; doi: 10.2147/CLEP.S142940 (https://doi.org/10.2147%2FCLEP.S142940)